أثر ذاتية المحرر على التغطية الإخبارية: الصحافة بين الحياد والتحيز


 الدكتور عبدالله إبراهيم الطاهر
أستاذ الصحافة المساعد بكلية الاتصال وتقنيات الإعلام في الجامعة الخليجية – مملكة البحرين


ينظر الكثير من الصحافيين الممارسين إلى مفاهيم "الموضوعية" (Objectivity) و"الحياد" (Neutrality) و"المصداقية" (Credibility) بعين الريبة، إذ هم يفهمون جيداً مقدار تماسات هذه المفاهيم مع الواقع حتى من قبل المنظمات الإخبارية التي ينتمون لها، فمقياس "الشعرة" هنا بيّنٌ وواضح، فكلما اقتربوا من الناس، كلما أبعدتهم المؤسسة التي يعملون بها بدعاوي "الموضوعية" و"الحياد" و"المصداقية".

ولذلك تجد الصحافيون في كثير من الحالات يتحولون إلى موظفين يتعاملون مع المعلومات كما يتعامل بائع الخضار مع الباذنجان والبطاطا والليمون، لا يعنيه كثيراً إن كانت هناك قيمة غذائية فيما يبيع أم لا، كذلك لا يعنيه كثيراً إن كان المزارع مستفيد أم خاسر، لكنه مع مرور الوقت يمكن أن يتوقف عن بيع الباذنجان لأنه ليس حريصاً على أن يستفيد أو يخسر المزارع، مثلما ليست المنظمات الإخبارية حريصة على المتلقين فيما يتعلق بالموضوعية والحياد طالما ظلت المؤسسات الاقتصادية الكبرى تخصها بالإعلانات.

لقد ظلت مفاهيم "الموضوعية" (Objectivity) و"الحياد" (Neutrality) و"المصداقية" (Credibility) رهينة خلافات منهجية متفاوتة، بين الباحثين في حقل علوم الاتصال والممارسين للعمل الإعلامي، وتعمق ذلك بشكل أكبر مع ظهور التقنيات الحديثة في مجالات الاتصال والتواصل، وبروز ممارسين جدد فاعلين ومؤثرين في نظام وسائط التواصل الاجتماعي، دارت على إثر ذلك نقاشات حول الحق في حرية التعبير عن الرأي والتداخلات بين هذا الحق والحق في الخصوصية.

إن القيم والمعايير التي تتشكل لدى الصحافي خلال الممارسة المهنية ومتابعة التطورات في القضايا ومحاور الأخبار تعطيه القدرة على تمييز الأخبار الكاذبة (Fake News) من الأخبار ذات الصبغة الحقيقية.

ولكن السؤال المهم هنا، بهذه المعرفة وبهذه المقدرة الدقيقة على التمييز، ألا يمكن أن يكون ذلك مدخلاً ليتدخل الصحافي في "تلوين" الخبر بما يتماشى وأهداف محددة يعمل عليها هو أو المنظمة الإخبارية التي يعمل بها، أو أي مؤسسة صناعية ذات أغراض محددة؟

لقد أصبح الجمهور أكثر حساسية تجاه مفهوم المصداقية خلال تعرضه المتواصل للأخبار التي ترد في وسائط التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أعطى المفهوم محمول ثقافي مختلف ربما يكون أكثر عمقاً عما كان سابقاً، ولا حياد في بث وإعادة بث الكثير من المحتوى المتداول في هذه الوسائط.

تعرض مفهوم الحياد لأكبر تحدي خلال العديد من الممارسات الإعلامية والتغطيات الإخبارية، خاصة فيما يتعلق باستخدام بعض المصطلحات على شاكلة "الإرهاب"، إذ كتبت الصحافة الأمريكية بعد حادثة تفجير المركز التجاري العالمي بمدينة نيويورك في فبرار عام 1993م، لدى تغطية خبر القبض على أحد المتهمين في الحادثة – وهو عربي مسلم: "القبض على إرهابي مسلم"، مخصصة المسلمين وحدهم بالإرهاب، على الرغم من تزامن هذه الحادثة مع خبر احتجاز المتطرف "ديفيد كوريش" عدداً من أتباعه، والمعركة المسلحة التي دارت بينهم وبين الشرطة الأمريكية، ومع ذلك لم تصف الصحافة الأمريكية كوريش بـ"الإرهابي المسيحي"، كما لم تصف وحشية المليشيات الصربية في البوسنة والهرسك ضد المسلمين بـ"الإرهاب الأرثوذكسي"، كما لم تطلق "الإرهاب الكاثوليكي" على حوادث العنف التي تقوم بها الجماعات الأيرلندية في بريطانيا، ولا "الإرهاب الهندوسي" على هدم العصابات الهندوسية المتطرفة للمسجد البابري في الهند.

وربما تكون أبرز التحديات والمناقشات لمصطلح الحياد جاءت خلال حادثة رفض "بي بي سي" بث مناشدة إنسانية وجهتها لجنة الطوارئ الخاصة بالكوارث المؤلفة من 13 وكالة إغاثة لصالح قطاع غزة بعد الهجوم الإسرائيلي على القطاع عام 2009، إذ اعتبر الكثيرون موقف بي بي سي بانه "انحياز لصالح إسرائيل"، وانتقدت كثير من الجهات ذلك الموقف وعلى رأسها الحكومة البريطانية، إذ وصف وزير الصحة الامتناع عن بث النداء بأنه "مؤسف"، بينما عللت "بي بي سي" الأمر بأنه "سيُقَوض الحياد الذي يميز تغطية الإذاعة" حسب رأيها، نافية تهمة الانحياز.

وفي كثير من الحالات تكون المنظمات والشبكات الإخبارية لها أجندتها الخاصة، فلا يستطيع الصحافي إلا أن يرتدي قبعة المنظمة في الدفاع عن وجهة نظرها، بذات نهج مذيع شبكة NBC الذي كان يلح بأن صدام حسين هو الذي عرّض حياة المدنيين للخطر، في الوقت الذي لا يعرف فيه المشاهدين أن هذا المذيع يتسلم راتبه من شركة "جنرال موتورز" وهي من كبريات موردي الأسلحة في حرب الخليج، وتمتلك في ذات الوقت شبكة NBC.

ليصبح الحياد بذلك مجرد مفردة ليست لها أي دلالات، غير أنها تثير التشويش، وتثير الشكوك كذلك، فلا أرض قطع ولا ظهراً أبقى، منبت الصلة عن الواقع.

ظلت وظائف الصحافة تلعب أدواراً عميقة في مهمة وسائل ووسائط الإعلام، وتتفاوت بين الباحثين، ولكن الإجماع العام على الوظيفة الإخبارية، والوظيفة الإعلانية، والوظيفة الترفيهية، والوظيفة التعليمية، والوظيفة الرقابية، والتعبير عن الرأي، أبرز الوظائف، ولكن مع دخول وسائط التواصل الاجتماعي في الخط، انفرط العقد، ولم تعد وظائف الإعلام هي ذات الوظائف، إذ اختلط الحابل بالنابل، وأصبح مفهوم "الهرج" و"المرج" في السوق، المعبر بشكل واضح عن "اللاتنظيم"، هو الوصف الأقرب لما يدور في وسائط التواصل الاجتماعي، إذ يفتقد الفضاء الإلكتروني للمعايير والقيم والمفاهيم المشتركة.

وترك هذا الوضع أثراً على نفسية المحررين، إذ أصبح الموسومون بالمؤثرين هم أبناء "البطة البيضاء"، وانفض الناس من حول الصحافيين، حتى الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية والخدماتية تحولت في بحثها عن التسويق إلى المؤثرين في وسائط التواصل الاجتماعي، إذ الكلفة أقل والانتشار أوسع، بينما كان العاملين في المنظمات الإخبارية الأكثر جذباً والأوسع انتشاراً، ولكن... "لكل زمان مضى آية"، صحيح أن الشاعر أحمد شوقي قال و"آية هذا الزمان الصحف"، إلا أن التطورات التكنولوجية أكدت أن آية هذا الزمان "السوشيال ميديا".

ظل الصحافي على مر تاريخ الحركة الصحافية يكابد ضمن أطر الحياد والموضوعية والتحيز، والمؤسسية، لكن في ظل عهد "السوشيال ميديا" وجد أن لا أحد يلتفت لمثل هذه المفاهيم، وأصبح المنحى الرائج هو ريادة الأعمال الصحافية والتفكير أكثر في الأعمال التجارية.

التأثير الكبير لوسائط التواصل الاجتماعي الذي اكتشفه الصحافيين ربما يكون دافعاً للبعض، للانتقال إلى الفضاء الإلكتروني، وبناء منصات قادرة على المنافسة في سوق أضحى مفتوحاً إلى أبعد الحدود.

مكّنت وسائط التواصل الاجتماعي أو ما يسمى بصحافة المواطن، المواطنين من المشاركة في جمع الأخبار ونشرها بطرق أكثر سهولة مما كان سابقاً، ولكن مع ذلك تطل بعض التساؤلات برأسها على شاكلة إن كان هناك دور سالب محتمل لصحافة المواطن على عملية صناعة الأخبار، والتأثير على الأحداث، إذ تُتهم وسائط التواصل الاجتماعي بالمساهمة في نشر الشائعات والأخبار الكاذبة، خاصة في ظل الثورات العربية.

فتحت الثورة الرقمية الباب أمام المواطنين ليكونوا صحفيين، لكنهم ينقلون الأحداث عبر التجربة الذاتية غير المحايدة عن المشاعر، وهم متحررون من كل القيود التي تقيد الصحافي المحترف، الأمر الذي يدفع بكثير من المغالطات والمعلومات غير الصحيحة، كما في تغطيات وسائط التواصل الاجتماعي لحادثة الطفل المغربي ريان في ظل غياب التغطيات الرسمية، والاعتماد على التغطيات الشخصية من هواتف المواطنين.

في عام 2013 تم نشر 8 مليون تغريدة على تويتر بعد تفجيرات ماراثون بوسطن الذي شارك فيه أكثر من 27 ألف شخص، وعشرات الآلاف احتشدوا على جانبي الطريق لمتابعة الماراثون، و27 مليون إعادة تغريدة، منها 29% معلومات غير صحيحة، و20% من هذه التغريدات كانت حقائق واقعية.

من التساؤلات المهمة كذلك، في هذا الجانب، إلى أي مدى يمكن أن تؤثر التكنولوجيا على ذاتية المحرر؟، وتدفعه إلى الانتقال نحو مربع جديد أكثر تعقيداً نحو الذات، وأبعد مسافة عن مفاهيم الموضوعية والحياد والمصداقية، صحيح أن صحافي المستقبل لا بد أن يكون أكثر ذكاءً في مجال التكنولوجيا الرقمية لأن المنظمات الإخبارية هي الأخرى تصبح أكثر تركيزاً على التقنيات الحديثة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دارفور ... الحقيقة الغائبة والإنسان الضائع

السلام في أفغانستان ... الكاسب والكاذب